قال تعالى: ( الم {1} غُلِبَتِ الرُّومُ {2} فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ {3} فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ {4} بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ {5} وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ {6}(سورة الروم).
سبب نزول الآيات :
لما هزم الفرس الروم فرح المشركون وحزن المسلمون وذلك أن الروم كانوا أهل كتاب والفرس مشركين يعبدون النار فأنزل الله تعالى هذه الآيات التي تتنبأ بهزيمة الفرس من قبل الروم في فترة بضع سنين ولقد ورد في تفسير القرطبي عن القشيري وابن عطية وغيرهما: أنه لما نزلت الآيات خرج أبو بكر بها إلى المشركين فقال: أسركم أن غَلبت الروم؟ فإن نبينا أخبرنا عن الله تعالى أنهم سيغلبون في بضع سنين. فقال له أبي بن خلف وأمية أخوه - وقيل أبو سفيان بن حرب - : يا أبا فصيل - يعرضون بكنيته يا أبا بكر - فلنتناحب - أي نتراهن في ذلك فراهنهم أبو بكر. قال قتادة: وذلك قبل أن يحرم القمار، وجعلوا الرهان خمس قلائص والأجل ثلاث سنين. وقيل: جعلوا الرهان ثلاث قلائص. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: (فهلا احتطت، فإن البضع ما بين الثلاث والتسع والعشر ولكن ارجع فزدهم في الرهان واستزدهم في الأجل) ففعل أبو بكر، فجعلوا القلائص مائة والأجل تسعة أعوام؛ فغلبت الروم في أثناء الأجل.
تتابع الأحداث:
لقد عانى الروم البيزنطيون قبل نزول الآيات من خسائر جسيمة جعلت أمر بقاء إمبراطوريتهم على المحك، ولذلك كان من المستبعد انتصارها مرة أخرى، فلم يكن الفرس فقط هم الخطر الوحيد الداهم بل كان معهم أيضاً الآفار و السلاف و اللومبارديون، فقد وصل الافار إلى أسوار القسطنطينية ، فأمر إمبراطور البيزنطيين آنذاك هرقل أن يصهر والذهب والفضة التي كانت في الكنائس ويحولها إلى أموال لتغطي الجيش، وعندما لم يكن ذلك كافياً، أذيبت حتى التماثيل البرونزية وحولت إلى أموال، مما ألب الكثير من الولاة ضد هرقل ووصلت الإمبراطورية إلى مشارف الانهيار، فقد غزوا الفرس الوثنين كلا من وادي الرافدين وكليليكيا و سوريا و فلسطين ومصر التي كانت من قبل تحت الحكم البيزنطي 0
وباختصار فإن الجميع كانوا يتوقعون أن تتدمر الإمبراطورية البيزنطية . ولكن في تلك اللحظات نزلت قوله تعالى في :(غُلِبَتِ الرُّومُ {2} فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ {3} فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) لتعلن أن الإمبراطورية البيزنطية سوف تحرز النصر في غضون بضع سنوات من هزيمتها وهذا النصر بدا مستحيلاً في أعين العرب المشركين إلى درجة دفعت بهم إلى السخرية من هذه الآيات القرآنية، وظنوا أن هذا النصر الموعود في القرآن لن يتحقق .
و بعد ما يقارب السبع سنوات من نزول الآيات من سورة الروم ، و في الشهر الثاني عشر من عام 627م وقعت معركة حاسمة بين الإمبراطورية الفارسية والبيزنطية هُزمت الفرس شر هزيمة وكانت هذه الهزيمة غير متوقعة وبعد أشهر قليلة توصل الفرس إلى معاهدة مع الروم أجبرتهم على إعادة الأراضي التي استولوا عليها إلى الروم.
وفي نهاية الأمر فإن نصر الروم الذي أعلنه الله في القرآن الكريم تحقق كاملاً . هناك وجه إعجازي آخر في هذه الآيات، وهي أنها تقرر حقيقة جغرافية لم تكن معروفة عند أحد في ذلك الوقت.
فالآية الثالثة من سورة الروم تخبرنا أن الروم سوف يخسرون المعركة في أدنى منطقة من الأرض.
و تعبير " أدنى الأرض" في العربية يعني حسب بعض التفاسير مكاناً قريباً، ولكن هذا التفسير مجازي، لأن كلمة أدنى لم تأتي في هذه الآية بهذا المعنى. فكلمة أدنى باللغة العربية مشتقة من دنا يدنو بمعنى القريبة، وتأتي بمعنى المنخفضة، والأرض تعني العالم. و لذلك فإن أدنى الأرض معناها أكثر الأمكنة انخفاضاً في العالم .
و المثير للاهتمام أن أهم مراحل الحرب التي خيضت بين الروم و الفرس و أسفرت عن هزيمة الروم وخسارتهم للقدس، حصلت في أكثر مناطق العالم انخفاضاً في حوض البحر الميت الذي يقع في منطقة تتقاطع فيها كل من سوريا و الأردن و فلسطين و يبلغ مستوى سطح الأرض هنا 395 متراً تحت سطح البحر ، مما يجعل هذه المنطقة فعلاً أدنى منطقة من الأرض .
و أهم ما في الأمر أن ارتفاع بحر الميت لم يكن ليقاس في غياب تقنيات القياس الحديثة، ولذلك كان من المستحيل أن يعرف أي شخص في ذلك الوقت أن هذه المنطقة أكثر المناطق انخفاضاً في العالم ، ومع ذلك فإن هذه الحقيقة ذكرت في القرآن و هذا يؤكد مرة أخرى على أن القرآن هو وحي إلهي .
المرجع : معجزة القرآن تأليف هارون يحيى. |